الأولويات تأتي أولًا .. تحقيق عن انسحاب مصممي الجرافيك من ساحات التطوع

خلود ريس - 26-04-2023

الأولويات تأتي أولًا .. تحقيق عن انسحاب مصممي الجرافيك من ساحات التطوع

مدة القراءة المتوقعة: 6 دقائق

 

"نحن الموقعون أدناه ، مصممون جرافيكيون ومصورون وطلاب نشأوا في عالم تم فيه تقديم تقنيات وأدوات الإعلان لنا باستمرار باعتبارها أكثر الوسائل ربحًا وفاعليةً ورغبةً لاستغلال مواهبنا. لقد أنتجنا وابلًا من المطبوعات تكريسًا لهذا الاعتقاد، مشيدين بعمل أولئك الذين دفعوا بمهارتهم وخيالهم لبيع أشياء مثل:
طعام القطط، مساحيق المعدة، المنظفات، مرمم الشعر، معجون الأسنان المخطط، غسول ما بعد الحلاقة، غسول ما قبل الحلاقة، الحميات الغذائية للتنحيف، حمية التسمين، مزيلات العرق، المياه الغازية، السجائر…

يتم إهدار أكبر جهد يبذله العاملون في صناعة الإعلان على هذه الأغراض التافهة، التي تساهم بشكل ضئيل أو لا تساهم على الإطلاق في ازدهارنا الوطني.
نعتقد أن هناك أشياء أخرى تستحق استخدام مهاراتنا وخبراتنا فيها. هناك لافتات للشوارع والمباني، وكتب ودوريات، وكتالوجات، وكتيبات إرشادية، وتصوير صناعي، ووسائل تعليمية، وأفلام، وبرامج تلفزيونية، ومنشورات علمية وصناعية، وجميع وسائل الإعلام الأخرى التي نروج من خلالها لتجارتنا، وتعليمنا، وثقافتنا و وعينا الأكبر بالعالم."



كانت هذه الصرخة بيان أطلقه كين جارلاند مع 20 من رفاقه من المصممين والمصورين والطلاب في بريطانيا عام 1963م، بمثابة ردة فعل على الثقافة الاستهلاكية المتضخمة في بلدهم التي سخرت التصاميم الجرافيكية لبيع الأشياء وشراءها، داعين إلى عودة التصميم إلى جانبه الإنساني، وتسخيره للتعليم والخدمات العامة التنموية التي تسهم في ازدهار المجتمع ونهضته. وعنون ذلك البيان الذي لاقى تفاعلًا دوليًا كبيرًا بـ First Things First (الأولويات تأتي أولًا). 



في عالمٍ يحتفي بالصورة ويرتهن تحت سطوتها، لا أحد ينكر أثر التصميم الفني سواءً في تلك الأمور الاستهلاكية التي عبّر البيان السابق عنها بامتعاض ونقدٍ لاذع، أو حتى في وسائل الاتصال المؤثرة في الوعي أو التعليم أو الرسائل القيمية أو خدمة احتياجات المجتمع. ولهذا يملك المصممون في أيديهم وفي كوامن خيالهم أسلحةً خلّاقة، إما أن تسهم في تضخّم طاحونة الاستهلاك الكبرى، أو أن تزدهر بالمجتمع في ساحات التنمية. جاء في تقرير "واقع العمل التطوعي في المملكة العربية السعودية 2021م" المعد من قبل مؤسسة آفاق التنموية أن أقل مجالات التطوع التي ساهمت بها العينة التي تمت دراستها كان: مجال التصميم والمونتاج بنسبة 4% محققة المركز الأخير من بين 14 مجالًا، وقد عقّب التقرير على هذه النتيجة بالسؤال التالي: "هل يعود ذلك لنقص الكفاءات المؤهلة؟ أو نقص الشغف في هذا المجال؟"


ندرة الكفاءات أم وفرتها؟

يُدّرس تخصص التصميم الجرافيكي اليوم كتخصص رئيسي ومستقل في 16 جامعة سعودية، مما يعني توفر كفاءات مؤهلة ومتخصصة علميا وعمليًا في التصميم الجرافيكي يتم تخريجها كل سنة في مختلف مناطق المملكة. هذا إلى جانب تصاعد الاهتمام الملموس في المجتمع بجانب التصميم وتعلمه وانضمام صفوف من الهواة والمتمرسين خارج جدران الأكاديميات ومدارس التصميم. مما يجعلنا  نستبعد احتمال ندرة وجود الكفاءات، لنعيد محاولة تسليط الضوء على الأسباب الحقيقية بصورة أدق.


من المصممين وعنهم

 
 

أجرينا استطلاعًا قام بالإجابة عليه أكثر 60 مصمم جرافيكي تنوعت مستوياتهم ومجالات أعمالهم، وطرحنا عليهم السؤال التالي: كمصمم هل سبق أن قدمت من وقتك وعملك وخبرتك للتطوع لجهة أو مشروع غير ربحي؟ فجاءت الإجابة بالمركز الأول مشيرة إلى (أحيانًا) ثم تراوح المركز الثاني مابين (دائمًا) و (أبدًا) بنسبة متساوية لكل منهما.

سنلقي الضوء في هذا التحقيق على أبرز 3 عوائق تحول بين المصمم والخدمة التطوعية بناءً على نتائج الاستطلاع:

 
 



1- الانشغال وعدم توفر الوقت

المسار المهني، الأدوار العائلية، التكاليف المادية، المسؤوليات الاجتماعية، كلها أمور تجعل خيار التطوع أمرًا بعيدًا عن ذهن المصمم المزدحم. حقق هذا العائق 40 صوتًا من أصل 60 مشاركًا في الاستطلاع، وهي نتيجة متوقعة ومفهومة. وهنا يمكننا أن نتساءل: هل يمكن أن تستحدث المنظمات غير الربحية أنظمة تطوعية مرنة لتفتيت المشاريع الكبرى إلى مهام جزئية ومعقولة، لا تحول بين المصمم وبين رغبته في أن يتلمس بركة تطوعه في شؤون حياته الخاصة.


2- ضعف الوعي التصميمي في البيئات التطوعية

يعبّر هذا السبب عن شكوى الكثير في أوساط المصممين عن عدم فهم المجتمع لطبيعة مهنتهم، وعدم تثمين قيمة عملية إنتاج الأفكار والحلول. إلى جانب الاعتقاد السائد إلى حد ما بأن عملية التصميم لا تعدو كونها ذوقًا شخصيًا وصناعة جمالية عشوائية لا تبنى على أسس ومفاهيم تصميمية مؤثرة في إيصال الرسالة وأداء الحاجة الوظيفية للتصميم. ويزداد الأمر سوءًا حين تتدخل الأطراف الخارجية في عملية بناء التصميم الجارية بين المصمم والفرد الموكل بمتابعة التصاميم من قبل الجهة، لتهدم هذا البناء بقرارات عشوائية وذوقية محضة، بعيدًا عن عملية إنتاج الحلول السليمة والمنهجية في التصميم. يخبرنا أحد المشاركين عن تجربته الشخصية قائلًا: "كنت أحاول تطوير بعض التصاميم وتمّ رفضها بسبب إنها تختلف عما اعتادوا عليه، مع أن المعتاد عليه صعب الاستخدام ولا يوجد من يقرأه". وعن ضعف فهم عملية التصميم وطبيعة سيرها، تقول مشاركة أخرى: "لكن التدقيقات على المحتوى كانت تصل في منتصف عملية التصميم وتغير مجرى التصميم بزيادات أو إنقاص شديدين في المحتوى، و استمر العمل بشكل عشوائي حتى انتهى المشروع دون أن ينتهي فعليًا".  يشكل ملئ فجوة الوعي هذه أمرًا شاقًا على المصمم لا سيما إن كان عملًا مجانيًا بلا مردود مادي ولا عقود قانونية لتنفيذ المشروع.




3- استنزاف المتطوع 

يندفع المصمم المتطوع برغبته الجامحة في فعل الخير والتأثير الإيجابي في المجتمع، فما يلبث أن يرتطم بكم هائل من الطلبات والشروط والإخلال بالمواعيد. مما يجعل شمعة العطاء فيه تذوي وتنطفئ، مستهلكًا وقته وصحته وجهده وربما ماله، مما يُخل بميزان الأولويات في أعماله.

"للأسف المجالات التطوعية تتطلب جهدًا كبيرًا جدًا، بالعادة إذا طُلِب عمل بدون مقابل يُتَوَقّع من الطالب عدم المبالغة في التفاصيل أو الكمال في العمل؛ لكن الجهات التطوعية تطلب أعمالًا بدون مقابل و تشترط كثيرًا في تفاصيلها و تطيل المدة في العمل و لا تلتزم بجدول زمني صحيح." هكذا عبرت إحدى المشاركات في الاستطلاع عن تجربتها السلبية في التطوع. بينما يخبر مشارك آخر عن سوء تجربة التواصل التي مر بها أن سبب تجربته السلبية كان يتمثل في "التواصل خارج أوقات العمل مثل 6 صباحا او 12 مساءا". وعبر مشارك ثالث عن هذا السلوك الذي تجريه بعض الجهات بـ "الاستغلال الزائد ومحاولة التواصل طوال الوقت".



صوت المجتمعات غير الربحية

سعيًا لمد جسور التواصل، أجرينا عدة مقابلات مع عدد من القياديين والعاملين في الجهات التطوعية وغير الربحية لنكمل الجزء الناقص من الصورة، محملين بـ أصوات المصممين وأسئلتهم:

(1) حماية المصمم 

فعن دور الجهة التطوعية في حماية المتطوع، تجيبنا قائدة وحدة التطوع في إحدى الجهات غير الربحية أ. شيماء أحمد عن بعض الآليات التي تجريها لممارسة هذا الدور: بمعرفة مستوى المصمم من خلال أعماله السابقة، وسؤال المصمم عن وقته المتاح، بالإضافة إلى التخطيط المبكر وتوفير المادة بحيث يتسع له العمل وفق ما يناسب أوقاته، مع توزيع المهام على أكثر من مصمم. وتضيف الأستاذة ع.ز بأن الاتفاق المسبق وتوقيع اتفاقية ترضي الطرفين يحفظ المصمم من تبعات أي إجراء يتخذ خارج الميثاق.

(2) الوعي عملية مشتركة 

"الطرفان يحتاجان إلى توعية كبيرة." هكذا استهلت أ. جمان وليد قيادية ومشرفة البرامج في مؤسسة غير ربحية إجابتها عن سؤال: هل هناك ضعف في فهم متطلبات عملية التصميم وكيفية تسييرها من قبل الجهات التطوعية؟ فعندما يتلمس المصمم عدم الدراية الكافية من مشرف البرنامج بمجاله، يخطئ عندما يختار الانسحاب أو الانكفاء عوضًا عن الشرح والتوضيح والإقناع والتوعية، فـ "المجال مجالك.. وللطرف الآخر الحق بالفهم". 

(3) قوة التواصل

وتلخّص حسب تجربتها أسباب الخلاف الذي قد ينشأ بين المصمم والمشرف التطوعي بـ: عدم الاتفاق الواضح على التوجّه أو الفكرة العامة للتصميم، وعدم وضع خطة زمنية لعرض مراحل العمل تضع المشرف في الصورة وتقلل من التعديلات المطلوبة، مع عدم الفهم الكافي لفكرة البرنامج أو المبادرة، بالإضافة إلى التأخر في تسليم المحتوى أو كثرته وازدحامه بما لا يستوعبه التصميم. وترى بأن حل كل هذه الأمور يكمن في اجتماع واضح تناقش به هذه التفاصيل.



ميادين التطوع الخضراء

محاولتنا لمعالجة بعض البذور وظروف زراعتها لا يفقد الجزء المزهر من البستان رونقه وبهاءه. فعن الأثر الإيجابي الذي يحققه التطوع يحكي المصممون المشاركون في الاستطلاع عن تجاربهم: 

تقول إحدى المشاركات عن ثمار العمل التطوعي على الوقت "أدبني من ناحية تنظيم الوقت" وتقول الأخرى أنها استفادت "البركة في الوقت، والعمر". أما ما يحققه من رصيد خبرات لصحابه فيقول أحد المشاركين أنه ساهم في "صقل الشخصية وبناء الخبرة التصميمية وبناء العلاقات" ويقول الآخر أنها خرج منه ب "تنفيذ عمل كنت أطمح للوصول لمثله". وعلى صعيد العلاقات كانت النتائج "تكوين علاقات مع شخصيات مميزة" و "خلق لي فرص عمل غير متوقعة". وعن الأثر النفسي تعبّر إحدى المشاركات عنه بقولها "شعور جميل عند إنجاز المشروع، وعادة يكون بدون ضغط تسليم المشاريع غير التطوعية".


لأننا نؤمن بأن الحلول تبدأ من التصميم أولًا، فنحن نعتقد بأن المصمم الذي ينافح عن احترافية مهنته، عليه أن ينافح عن شرفها ومسؤولياتها الكبرى أيضًا. وكما يتكبد الأعباء لتقليص فجوات التواصل والوعي بينه وبين عملائه المهنيين، فعليه أن يمد جسرًا من التفاهم والتواصل مع الجهات الخيرية، بانيًا حول هذا الجسر أسوارًا من العقود والوثائق الحافظة لحقوقه وحقوق الطرف التنموي، ليحقق التوازن بين أعماله الربحية وأعماله الخيرية فيضمن ديمومة مهنته وتطوره وعطائه. ويظفر أخيرًا بشرف الفوز بـ "الأولويات"، متنعمًا بثمارها العاجلة ومتوّجًا بآثارها وأجورها الممتدة.

"لايدرك المجد إلا سيدٌ فطن
لما يشق على السادات فعّالُ"




المصادر:

designishistory.com

dirasaabroad.com

تقرير "واقع العمل التطوعي في المملكة العربية السعودية ٢٠٢١م" من مؤسسة آفاق التنموية












Abdullah Aljohani